ظلّ رجلٍ ولا ظلّ حائط؟"

كانت سعاد تسمع هذه العبارة كثيرًا وهي طفلة:

"ظلّ رجل ولا ظلّ حيطة؟"
لكنها حين كبرت، أدركت أن المرأة قد تكون هي الظل والسقف والأمان… بل الوطن كله.

سعاد، أرملة في مطلع الثلاثينات، رحل زوجها فجأة في حادث، تاركًا لها ثلاثة أطفال، أصغرهم كان لا يزال رضيعًا.

قال الناس يومها:
"لن تستطيع الاستمرار، لا بد أن تتزوج، فلن تقدر وحدها."

لكنها لم تُجِب أحدًا، ولم تذرف دمعة أمام الناس.
جمعت أحزانها في وسادتها، وقالت لنفسها:
"سأكون الأم والأب… سأكون الظهر والسند."

بدأت تعمل في تنظيف البيوت، وفي الليل كانت تجلس تحت ضوء مصباح غاز، تفصّل وتخيط ثياب أهل الحارة، لا تشتكي، ولا تتذمّر.

تعود منهكة، لكن قبل أن تغفو، تجلس بجانب أطفالها، تروي لهم حكاية، وتدعو من قلبها أن يعيشوا حياة أفضل.

ومضت السنوات… كبر الأولاد.
أصبح أحدهم مهندسًا، والآخر معلمًا، والصغيرة التحقت بكلية الطب.

وفي يوم تخرج ابنتها، وقفت المذيعة على المنصة وقالت:
"تحية خاصة لأم الأبطال… السيدة سعاد."

كانت سعاد واقفة بين الناس، بملابس بسيطة، لكنها شامخة، والدمعة في عينيها ليست حزنًا، بل فخرًا عظيمًا.

عادت بعد الحفل إلى شقتها القديمة… ذات الجدران التي شهدت صبرها وكفاحها.
دخلت المطبخ، نظرت حولها… إلى الأواني القديمة، والكرسي المكسور الذي رمّمته مرارًا، وهمست لنفسها:
"ما كنت أظن أنني سأصل إلى هذه اللحظة… الحمد لله، تعبي لم يذهب سُدًى."

في تلك الليلة، دخلت عليها ابنتها، تحمل شهادة التخرج، وقدّمتها لها قائلة:
"هذه لكِ، قبل أن تكون لي. أنتِ من تعبتِ، لا أنا."

أخذت سعاد الشهادة بيد مرتجفة، ضمّت ابنتها إلى صدرها، وقالت:
"لو عاد بي الزمن، لاخترت التعب ذاته… فقط لأراكم واقفين، ناجحين، مرفوعي الرأس."

ولأول مرة منذ سنوات، نامت سعاد مرتاحة… لا من التعب، بل من راحة القلب.
نامت وهي تعلم أنها انتصرت… لا على الفقر فقط، ولا على الوحدة، بل على الزمن نفسه.

انتصرت بقلب أم… لا سلاح لها سوى الحب، والصبر، أبنائها. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جزاء البخيل

فضل الأب

العثور على هيكل عظمي لأمرأة عمرها 2100 عام